للفقهاء رأيان في تحديد المراد بأهل الكتاب، فالحنفية يرون أن أهل الكتاب: هم كل من اعتقد ديناً سماوياً، وله كتاب منزّل، كالتوراة والإنجيل، وصحف إبراهيم وشيث، وزبور داود. ويرى الجمهور أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى فقط، دون غيرهم، لأن قوله تعالى: )إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا( (الأنعام 156) يدل على أنهم اليهود والنصارى فقط، وهو رأي الجصاص الحنفي (ت370هـ) أيضاً، وقد ورد تعبير أهل الكتاب بحسب الاتجاه السابق في ثلاثين موضعاً، وتعبير «أوتوا الكتاب» ونحوه في خمسة وخمسين موضعاً من القرآن الكريم، وينقسم النصارى واليهود إلى مجموعات من الفرق والطوائف المختلفة.
وأما الصابئة في جزيرة الموصل، والسامرة في بلدة نابلس بفلسطين، فهم من أهل الكتاب عند أبي حنيفة، خلافاً لصاحبيه أبي يوسف ومحمد وهم قوم مشركون في رأي الأوزاعي ومالك بن أنس، ليس لهم كتاب.
وأما المجوس: فهم قوم كانوا يعبدون الشمس والقمر والنار، وأطلق عليهم هذا اللقب منذ القرن الثالث الميلادي، والمجوسية دين قديم زاد فيه وعدله زرادشت، وهم فرق شتى، منهم الزرادشتية والمزدكية والخرّمية، وهم ليسوا من أهل الكتاب في تقدير جماهير الفقهاء، وعدّهم ابن حزم الظاهري (ت456هـ) من أهل الكتاب، والرأي الأول أصح، لأن حديث «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» في أخذ الجزية، يدل على أنهم ليسوا أهل كتاب، كما قال الفقهاء.
وهناك فرق أخرى ليست من أهل الكتاب لا مجال للتفصيل فيها كالدهرية والمشركين والمنافقين والزنادقة والمرتدين ومنكري بعثة الرسل وغيرهم. وأهل الكتاب قسمان قسم يقيم في ديار الإسلام وهم أهل الذمة[ر]، وقسم يقيم خارجها ولهم أحكامهم الخاصة بهم.
الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب
خاطب القرآن الكريم الكتابيين بعبارة «أهل الكتاب» ليتألفهم، ويبين وجود معتقدات مشتركة بينهم وبين المسلمين، كالاعتقاد بالله تعالى، والنبوة، والقيامة، وعبادة الله، والحلال والحرام، والفضائل والأخلاق القويمة.
لذا فإن القرآن يقرهم على دينهم في أصله، وممارسة شعائرهم، وأباح الإسلام مؤاكلتهم (الأكل معهم) ومعاشرتهم بالمعروف، ومجادلتهم بالحكمة وبالتي هي أحسن، وأحلّ أكل ذبائحهم، والزواج من نسائهم المحصنات العفائف، ويحل التعامل معهم مالياً، وتباح صلتهم بالهبات والهدايا والأوقاف والصدقات، ويمكن تحقيق نظام التعايش الديني معهم، في مجتمع واحد متعدد الأديان، بدليل ما جاء في وثيقة المدينة المنورة السياسية: «إن يهود بني عوف أمة من المؤمنين» أي إنهم بالصلح الذي عقد معهم كأمة أو فئة من المؤمنين.
وإذا سَلّموا، رُدّ عليهم السلام من باب العدل، ويجوز تشييع جنائزهم، وتعزيتهم بأمواتهم، وتهنئتهم بزوجة أو ولد أو عافية أو سلامة من مكروه، وتصان كنائسهم من الأذى والاعتداء، لأن الله يحب الدفع عن تلك الأماكن، ولا بأس بعيادة مرضاهم، أسوة بالنبيe، وتجب معاملتهم بالحسنى من غير غش ولا خديعة ولا خيانة، ويحرم تكليفهم ما لا يقدرون عليه في أداء التكاليف المالية، وتنفيذ بنود المعاهدات، أو حبسهم أو ضربهم أو إهانتهم. ولهم الأحقية بأرض الصلح ما أقاموا على صلحهم، ويوفَّى لهم بشروط المعاهدات الأمنيّة والاقتصادية والثقافية، ويخفف عنهم.
وأساس كل ذلك قوله تعالى: )لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَن الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( (الممتحنة 8 -9).
وإذا دُعوا إلى الإسلام، أو حدث جدال معهم، لزم أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة، كما في قوله تعالى: )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ( (آل عمران 64) وقوله سبحانه: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين( (النحل 125).
ولا يكرهون على تغيير عقائدهم وأديانهم، ودخولهم في الإسلام، لقول الله تعالى: )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( (البقرة 256).
ولم يمنع النبي e قبل فرض الجهاد ولا بعده وثنياً من اعتناق دين أهل الكتاب، كما ذكر ابن قيِّم الجوزِيّة (ت 751هـ) في «أحكام أهل الذمة» وإذا احتكموا إلى محاكم المسلمين، لزم القضاء بينهم، أو مع طرف مسلم، بالحق والعدل، لقوله تعالى: )وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( (المائدة
.
ويتجنب المسلمون نقض المعاهدات معهم، إلاّ إذا نقضوها من جانبهم، لقوله تعالى: )وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُون( (النحل 91).
وقواعد التعامل مع أهل الكتاب تنبني على الحفاظ فعلاً على حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، والحرية الدينية، والفضيلة والرحمة، والإحسان والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعاملة بالمثل.
وأجاز أغلب الفقهاء الاستعانة بهم في القتال على أمثالهم، على أن تكون القيادة للمسلمين، لأن النبيe، فيما رواه مسلم، استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، وغير ذلك من الوقائع. ولم يجز بعض الفقهاء الاستعانة بهم في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم الحربية والمالية، كالخراج، كما ذكر ابن قيم الجوزية في «أحكام أهل الذمة». ولكن الواقع الإسلامي فيه أمثلة على هذه المشاركة.
وإن شارك الكتابي في الجهاد، فأمَّن أحداً، فإن شاء الإمام أمضاه، وإلا فليرده إلى مأمنه، في رأي الأوزاعي، ولم يجز بقية الفقهاء أمان الذمي والحربي المستأمن، منعاً من التهمة والميل لبني ملته.
ولغير المسلم، كتابياً كان أو غيره، دخول بلاد المسلمين بأمان ماعدا بعض الأماكن، لسفارة أو تجارة، أو سماع كلام الله وغير ذلك، ويخضع للقانون الإسلامي، وذلك لمدة ما من دون السنة إلا بتجديدها، أو إقرار الاستمرار كالسفراء والقناصل.
حقوق أهل الكتاب وواجباتهم
هي في الغالب مثل حقوق أهل الذمة[ر] في داخل الدولة الإسلامية، ما عدا بعض الاستثناءات المقصورة على المواطنين كالجنسية، وحق انتخاب الإمام «الخليفة» والترشيح للخلافة، وقيادة الجيش، وممارسة الحقوق السياسية التي يتمتع بها المسلمون وأهل الذمة، وكذلك كفالة بيت المال، خلافاً للذميين (المعاهدين أو المواطنين)، لكن تقوم الدولة برعاية المستأمن، وسد حاجته، ولا تعرِّضه للهلاك.
وإذا بدرت خيانة من أجنبي، أو خيفت خيانته، نبذ إليه عهده، وأُبلغ مأمنه ووطنه بسلام وأمان، لقوله تعالى: )وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ( (الأنفال 58) وقوله: «على سواء» أي مستويين في العلم بنقض العهد.